الاثنين، ١٢ شعبان ١٤٣٣ هـ

الجنس بين الحرية... والانتقام من الذات



يقول برناردشو: "من عيوب الديمقراطية أنها تجبرك على الاستماع إلى رأي الحمقى"
من حسنات الحالة الثورية التي يعيشها العالم العربي فضحها للنخبة المتحكمة في القرار الفكري والحقوقي وإبرازها لموقعها الحقيقي المفارق للمجتمع. إذ لم تتوان هذه الأصوات المنعزلة جماهيريا واجتماعيا من تقديم نفسها المعبرة عن قيم الحداثة والتنمية ووصف المجتمع الذي تعيش فيه بالتخلف والنفاق. فكما أبرزت ثورات الربيع العربي ارتباطها الإيديولوجي بالاستبداد واستغلال السلطة لتمرير مشروعها، برهنت الانتخابات التي عرفتها بعض البلاد قزمية تمثيليتها ونخبوية خطابها بل مصادمته للمشترك الجمعي.
ولأن لكل شيء علة وجود فإن هذا الكلام لا يمكن فصله عن سياقه العام والخاص. فمع اقتراب شهر رمضان من كل عام، وفي مقابل حالة الاحتفاء التي تسم المشهد الاجتماعي المغربي، تحتفي بعض الأصوات العلمانية على طريقتها. حيث تتعالى أصوات المتحدثين عن الحريات الفردية واتهام المجتمع المغربي بمحاربتها. وكأنها تتعالى لتختفي مع إطلالة الشهر وتعلن نهايتها بفشلها لتعاود الانكماش. ففي السنوات الماضية تمحور النقاش حول حرية الإفطار خلال هذا الشهر ومحاولات البعض باسم الحقوق تنظيم إفطارات جماعية تصدت لها الساكنة بالرفض والمواجهة. وفي هذه السنة يدور النقاش حول الحرية الجنسية بعد ندوة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي راهنت على فرض نماذج قيمية بديلة في كل المجالات تحت مزاعم الدفاع عن الحقوق والحريات العامة وذلك في سياق مطالبتها بتعديل الفصل 490 من القانون الجنائي. ولو تأملت في المشهد الإعلامي والثقافي ستجد تعابير لمثل هذه الأصوات تزكم الساحة الفكرية دون أن يكون لها اثر في الواقع المغربي . وهذا ما يفرض علينا إبداء بعض الملاحظات الأولية:
ــ لا يمكن فصل هذا النقاش عن مسار الاصطفاف الذي تعيشه المجتمعات العربية. فبعد فشل هذه الأصوات في تسيد القرار السياسي وانتباهها إلى حجمها الحقيقي بعد سنوات من الوهم بدأت في خلق المتاعب والعراقيل للحكومات المنتخبة تارة باسم حقوق العمال كما فعلت النقابات الاتحادية ومن يدور في فلكها، وتارة باسم الحقوق الثقافية، وتارة باسم حقوق المجتمع وحرياته الفردية. وبالرغم من اختلاف العناوين فالمقصد واحد وإن تعددت الروايات المؤلفة. ولنا في التجربتين التونسية والمصرية دليل يبرز تماثل الغاية ، حيث استفاقت هذه الأصوات بعد مدة بضرورة إفشال التجربة الحالية والعودة إلى النموذج الاستبدادي الذي تقتات منه وجودها.
ــ  أزمة سدنة الخطاب العلماني الاستئصالي داخل المجتمع هو رهانها على إسقاط الذات على المجتمع. إذ تبني على تجاربها الذاتية وواقعها الضيق ومسلكياتها الخاصة الشاذة مواقف تحاول فرضها على المجتمع بأسره. فالأمر في هذه الحالة لا يتعلق بمبادئ حقوقية أو دفاعا عن قضايا مجتمعية بقدر ما هو حالة نفسية خاصة تحاول تبرير سلوكها اليومي بمبادئ كلية وجر الجماعة للخضوع لنزواتها الفردية. فالخمر والإفطار في رمضان والدعارة والشذوذ الجنسي والعري باسم الفن...غدت في عرف هؤلاء عناوين لقيم بديلة تحاول مسخ المشترك المغربي باسم الحرية.
ــ أثبتت أحداث سابقة شهدتها بعض مدن وقرى المملكة منطق التعامل مع حقوق المجتمع. فحين انتفضت ساكنة عين اللوح "الأمازيغية" ضد الدعارة والفساد اعتبرت هذه الهيئات ذلك تدخلا في حقوق الإنسان وهجمة "أصولية" تقودها حكومة العدالة والتنمية، لكن حين رغب بعض "الشواذ" مواجهة المجتمع بالإفطار في واضحة النهار وإن عبر الناس عن رفضهم كان ذلك حرية خاصة. مما يثبت ان الحقوق عند هؤلاء تكون مشرعنة ويجوز الدفاع عنها إذا أدت إلى منظومة القيم البديلة التي تحاول فرضها وفصلا داخل أجندة التجزئ الاجتماعي الذي تقتات عليه.  
ــ لقد فرض الدستور المغربي واقعا جديدا لم تقدر هذه الأطراف على استيعابه. فكلنا يتذكر محاولاتها الدؤوبة لفرض قيمها العلمانية على المغاربة باسم الحداثة والكونية وهو ما اصطدم بإصرار القطب الهوياتي ممثلا في العلماء والحركة الإسلامية وبعض الأحزاب السياسية وبتوافق مع المؤسسة الملكية لعدم المساس بموقع الدين الإسلامي. وكعادتها في التعامل الانتقائي مع النصوص النظرية والتأسيسية واختيار ما يسند مزاعمها من التراث أو الحاضر توقفت عند النص الدستوري متجاهلة تأكيده على:"المملكة المغربية دولة إسلامية، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية" و"أن الهوية المغربية تتميز بتبوإ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها" و" تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي" و"الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية." فكلها نصوص لم  ولن تتمكن هذه الأصوات من رؤيتها وقراءتها ومقاربتها مادامت لا توافق منطلقاتها القيمية وغايتها التجزيئية ومادام الدستور يلح دوما على كون الإسلام دين الدولة ومصدر التشريع الأساس ومقدمة ثوابت المشترك المغربي. فإسلامية الدولة لا تعني رفض الأديان أو الاختيارات العقدية بل ضمان حرية العقيدة مبدأ أصيل ومقنن بشكل لا يصادم الاختيار الجماعي.
ـــ لم ينس المشرع الإشارة إلى العلاقة بين الكوني والخاص بشكل قد يحسم النقاش لو كان موضوعيا من خلال "جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة". وبقراءة عرضية ودون تعمق في التحليل يستشف المتابع أن المقصود بالأمر هو ثنائية التشريع الوطني والاتفاقيات الدولية حين انضباطها لأحكام الدستور وضوابط الهوية وفي البابين معا يكون الإسلام هو الأصل.
ـ لم يستطع الخطاب العلماني استيعاب الاختلاف الفكري والإجرائي في فهم الحرية حيث ظل يجتر مفاهيم تم تجاوزها حتى في الفكر الفلسفي الأوربي. فإطلاقية المفهوم وعدم تحديده غدا أمر مستشنعا في التجربة المعاصرة بل أصبح الاقتناع بأن الحدود التي رسمها الطبع والوعي والانتماء هي ضابط وجود الإنسان الذي أنتج على مدار كينونته جملة من القيم المعبرة عن رؤيته للطبيعة وللعالم والتي غدت ضوابط تقيد مسلكياته في أفق ضمان الاستمرار والتميز عن مكونات الطبيعة الأخرى. وكما قال  ايزايا برلين في كتابه " حدود الحرية" : "على الذين يؤمنون بالحرية كتوجيه ذاتي عقلاني، أن يفكروا عاجلاً أم آجلاً في كيفية استخدامها لا في حياة الفرد الخاصة وحسب، بل في علاقته مع أفراد مجتمعه الآخرين أيضاً (...) فكيف يمكن تلافي التصادم مع رغبات الآخرين في هذه الحال؟ أين تقع الحدود الفاصلة بين حقوقي (التي يحددها المنطق) وحقوق الآخرين المشابهة لحقوقي". لذا فالحرية الجنسية التي تغنى بها أصحاب هذا الزعم هي جزء من محاولات خلخلة النظام الاجتماعي وطغيان الفرد على الجماعة وتقديم المصلحة الذاتية العرضية على مصلحة الجماعة المؤسسة.
ــ بأسلوب قدحي وهجومي على المجتمع يتهم الناس في خطاب هؤلاء بالنفاق. والمقصود في هذا السياق جموع المغاربة الذين اختاروا الاحتماء بمشتركهم الجمعي والاجتماعي وعقيدتهم وانتمائهم الأخلاقي. وفي هذه الصياغة التي تكررت على لسان أكثر من صوت من هذه الأصوات النشاز تبرز حالة انفصام ذاتي تتمظهر في الاعتلاء على المجتمع وجلد الذات التي ترفض في وعي هؤلاء مما أنتج جرأة على قيم المجتمع المغربي ثقافيا وفكريا ودينيا. لذا فإن كان تسامح المغاربة قد سمح لهؤلاء بالكلام فإن صبرهم على هذه الجرأة على الدين والقيم لن يطول كثيرا.
أثبتت الأحداث التي عرفها المجتمع المغربي أن الخيار الديمقراطي الذي سيد القطب الهوياتي لم يكن ليروق لأعداء الانتماء المغربي بمقوماته العقدية والتاريخية والثقافية. لذا اختارت عرقلة هذا الخيار باسم الحداثة والكونية والانتقام من مجتمع رفضها قبل أن يلفظها.

الخيار الوحيد: الاستبداد أو القطب الهوياتي



من الصعب أن توضع بين خيارين لا ثالث لهما، لكن هذا هو حال الإنسان العربي بعد ثورات ربيعه المعبرة عن جوهر الاختيار وأطرافه: إما الاستبداد وفلوله وإما القطب الهوياتي وامتداته.
منذ بداية ثورات الربيع العربي كنا نؤكد أن أهم تداعياته أمران أساسيان: أولا فرض الاختيار الجوهري بين الاستبداد والدمقرطة، والذي كانت الأنظمة الاستبدادية تخفيه وتغلفه بالأزمات الداخلية المتعاقبة موجهة الرأي العام نحو صراعات تحقق لها التوازن الاجتماعي وتحفظ لها كرسي إدارة الشأن العام، وثانيا التماثل بين تجارب الشعوب العربية التي وإن اختلفت في جزئيات التجربة فالوحدة الوجدانية وتشابه الأنظمة والتاريخ المشترك يجعل الصورة تتكرر حتى في تفاصيلها الجزئية من حيث وجهة الاختيار ونوعية كتائب الرفض وسبل المواجهة. لذا ليس غريبا أو مفاجئا أو مصادفة أن نجد التشابه حاضرا بين تجارب مصر والمغرب وتونس حتى في سبل عرقلة المشروع الهوياتي، وخير الأمثلة الأحكام القضائية التي تظهر هنا وهناك لثني المشروع وإبطاله باسم القانون، والحركات الاحتجاجية المستعملة لنفس الأسلوب، والحملات الإعلامية الرامية لتشويه صورة القادة الجدد. إنها الوحدة في كل شيء حتى في الهجوم على الوحدة. 
في مصر، وبعد مخاض طويل وحملات إعلامية وسياسية منظمة وانقلابات متتالية اختار الناس القطب الهوياتي ممثلا في حركة الإخوان المسلمين ومن تحالف معها من الحركات الديمقراطية. وقد وضع المصريون وبقوة بين اختيارين: القطب الهوياتي الديمقراطي ممثلا في رئيس حزب الحرية والعدالة، وقطب الاستبداد ممثلا في وزير مبارك وممثل العسكر الذي حاول إعادة أمجاد صاحبه وفلوله. وبالرغم من الحملات المنظمة إعلاميا والتي اختارت عنوانا مشتركا لها هو التشكيك في الجماعة والحزب والتيار الإسلامي ككل، بالتركيز على عرض الأفلام ومسلسلات مثل الإرهابي والجماعة والبرامج الحوارية التي تحرض على الحركة الإسلامية، بل وصل الأمر بالبعض إلى تخصيص منبره للمواجهة المباشرة وتقديم مستقبل مصر حين وصول الإخوان على أنه عصر حروب الشوارع والتجزئة وتخويف الطوائف الدينية كما فعل توفيق عكاشه في "الفراعين"، هذا بعد أن كيلت سابقا التهم تلو الأخرى للحركة تخوينا لها وتصويرها على أنها مجرد حليف استراتيجي للاستبداد وستبدأ في فرض الدولة الدينية منتقين نماذج من إيران وأفغانستان والسعودية واسوأ ما فيها على حد تعبير فهمي هويدي...بالرغم من كل ذلك انتصر الإخوان وأعلنوا بداية زمن التطهير الديمقراطي.
إذا كانت الصورة واضحة في مصر ففي المغرب تبدو مصابة بنوع من الصدأ الذي يحاول إخفاء حقيقة المواجهة. فمنذ بداية الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية ومن تحالف معها وطبول الحرب تدق معلنة التكتل من أجل إفشال المشروع. ومنذ بداية التجربة ونحن نقول أن بيانات الجبهة "الحداثية" ليست كلاما عرضيا بل هو تأسيس لفريق المواجهة. فمن يصدق أن خرجات النقابات المحسوبة على العهد البائد يقصد منها الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة؟ ومن تصور أن المسيرات المتكررة وفي مدن مختلفة وبعناوين وأسماء عريضة تريد مواجهة جشع الحكومة وأرباب العمل فقد احتقر ذكاء المغاربة؟. ومن سيصدق أن السيد نوبير الأموي الذي استيقظ بعد سبات عميق وحاول العودة إلى أصوله الاتحادية حاملا معه ذكرى الجامعة الربيعية لسنة 1996 وبنفس الألفاظ التي وجهها لوزراء الحكومة المنتخبة بعد أن فشلت تجارب أصدقائه الحزبيين يرغب في الدفاع عن الطبقة العاملة؟ من سيصدق كل هذا؟ بل هي محاولة من التيار اليساري بكل مكوناته تجميع قواعده بغية مواجهة المشروع الوطني الذي تقوده الحركة الإسلامية والتي انتصرت بهامش ولو كان ضيقا من الحرية. لكن قدر هذا التيار بعدما خسر ديمقراطيا وأسقطته صناديق الاقتراع أن يغدو في حلف استراتيجي وداخل دائرة واحدة مع أحزاب السلطة التي أرادت قمع المشروع الوطني و"تونسة" المجتمع المغربي. قدرها أن تكون في نفس الخندق المواجه للمشروع الديمقراطي مع أعداء المدنية والدمقرطة، وعرقلة الخيار الشعبي والوطني بغية إعادة عقارب الزمن المغربي إلى الوراء حيث باسم الحداثة المفروضة يوجه المغاربة كالخرفان نحو خيار مرفوض من قبلهم.
لقد انتصرت الديمقراطية واختار الشعب من يملكه تدبير الشأن العام. والبادي للعيان أن الاختيار لم يكن متعددا ولا خاصا بل كان حتميا وسيظل أزليا بين أمرين: الديمقراطية أو الاستبداد، الهوياتية أوالفلول، المستقبل الجامع لقيم الوحدة والانتماء أو ماضي القمع والسلطوية وفرض النماذج المستوردة. فهل يتعظون؟

في انتظار الأكاديمية



يتذكر المغاربة التصريح الحكومي الذي التزم فيه السيد رئيس الحكومة بإخراج أكاديمية محمد السادس للغة العربية إلى الوجود وتمكينها من شروط الاشتغال المادية والقانونية تطبيقا للمرسوم الملكي ولمقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين وللنصوص التشريعية الواردة في هذا الإطار. وبعد أشهر من بداية عمل هذه الحكومة وتوالي الملفات المثارة من حقنا التساؤل عن موقع الأكاديمية من مسارات اشتغالها؟ وألم يئن الأوان لكي ترى المؤسسة النور ويغدو الحديث عن برامجها بدل الحديث عن وجودها؟ وأليس من حق المغاربة الذين أعطوا للحكومة شرعية وجودها أن يعرفوا أسباب التأخر في تنفيذ هذا المرسوم والبند المؤسس للحكومة؟
يعرف العالم العربي، هذه الأيام، حركية كبيرة تخص مأسسة الفعل اللغوي وانتقاله من الحديث الشعاراتي إلى التنزيل الإجرائي، وذلك لعدة أسباب : أولها تداعيات الربيع العربي وثورات الساحات التي أكد عمق روابط الانتماء وجوهريته في تحديد وجود الإنسان العربي، وثانيا الإحساس العام لدى أصحاب القرار السياسي ومدبري الشأن العام بالخطر الذي يتهدد وجود شعوبهم من جراء الغزو اللغوي الأجنبي ، وثالثا ما تتيحه العربية من خلال امتداها الجيو ستراتيجي للدول من إمكانات بسط النفوذ والتحدث باسم الأمة الشاسعة الأطراف.
وهكذا شرعت دول عربية عدة في إخراج مؤسسات تهتم باللغة العربية بحثا ودراسة، وتوجيهها نحو العمق العربي بغية جمع ما انفرط عقده في جهات عدة. فمنذ مدة وبعد مطالبات أكاديمية ومدنية أنشأت المملكة السعودية مركزا لخدمة اللغة العربية يجمع في تسميته بين رمزية ملك البلاد والبعد الدولي المراد إعطاؤه له. ولم يمر بين المصادقة القانونية على المشروع ووضع هيكلته إلا مدة قصيرة شرع بعدها أعضاؤه الذين ينتمون إلى دول عربية عدة في إقامة حلقات نقاشية بالعديد من الدول بل وزيارة دول عدة للاطلاع على تجاربها التعليمية وواقع العربية فيها. مما أتاح للمركز تقديم نفسه ، في عدة مناسبات مثل زيارته الأخيرة للصين، ممثلا عن العربية وباحثا عن حل معضلاتها، ليس في السعودية فحسب بل في دول العالم بأسره. كما شرعت الحكومة السعودية في تنزيل القرارات المتعلقة بحماية اللغة العربية وتعريب فضاءات الشأن العام والإدارات المختلفة.
قد يكفينا هذا المثال، إلى جانب نماذج أخرى تسطع بها القاهرة والدوحة وأبو ظبي، لنسائل أصحاب القرار عن التلكؤ في النهوض بالعربية، حيث تبدو الأكاديمية هي أقرب إلى الحلم. فبعد مسار قانوني طويل وصل إلى إصدار المرسوم الملكي بإنشائها، وبعد مناقشات عديدة داخل البرلمان وخارجه، مازال الإجراء يراوح مكانه. فصحيح أن تصريحات أعضاء الحكومة ومواقفهم لا تفتأ تذكرنا بعمقهم الاجتماعي وانتمائهم الهوياتي مثل التصريح الأخير للحسن الداودي وزير التعليم العالي، حين أكد قوة العربية عالميا وضرورة استعمالها لغة للتدريس في المغرب، لكن التأخر في تنزيل مقتضيات الدستور والتصريح الحكومي وباقي النصوص المقرة بإحداث الأكاديمية يدفعنا إلى التساؤل عن السبب الثاوي وراء ذلك. فمن المنطقي القول بأن إنشاء الأكاديمية لن يحل مشكلة العربية في المغرب مادامت العقبات وفوهات الهجوم المشرعة كثيرة ومتعددة، ومن الواضح أن هناك أياد كثيرة تتحرك في الخفاء لعرقلة التنزيل وأخرى لتغيير مسار الفكرة وتحريفه عن المقصد الأساسي تنزيلا لمشروع التلهيج، لكن الحاجة الآن غدت ملحة لتنزيل المؤسسة وتمكينها من آليات النجاح والاستعجال بها لعدة أسباب:
§       أولا وجود حكومة تجمع بين الشرعية الشعبية والتعبير الهوياتي مما يعطيها جرعات أكبر من الجرأة لتجاوز الحواجز الانتخابية التي كانت تؤرق الحكومات السابقة وتعطيها القدرة على فرض تصوراتها المعبرة عن الإرادة الشعبية ورساليتها الحضارية.
§       في إطار عقلنة وترشيد البحث العلمي الذي تحدث عنه السيد وزير التعليم العالي في أكثر من مناسبة ستكون الأكاديمية محضنا ينسق بين المؤسسات الجامعية المختلفة ومراكز البحوث المتعددة في مجال اللغة العربية حوسبة وتعليما وترجمة، ويجمع المشتت في جهات عدة.
§       من النتائج المباشرة لغياب الأكاديمية الحضور المحتشم للمغرب في ملتقيات المجامع اللغوية العربية التي وصلت في مسارها البحثي والإبداعي درجة متقدمة مازال المغرب مغيبا عنها. فصحيح أن هناك تمثيلية في اتحاد المجامع لكن الجهة التي تقوم به غير مختصة مما يحرمها من مؤهلات التمثيل الحقيقي لمجهودات المغاربة في الاصطلاح وقضايا اللغويات. ففي الوقت الذي وصل فيه المصريون على سبيل المثال إلى النقاش القانوني حول قرارات المجمع ودرجة إلزاميتها، مازلنا نعيش في وطننا زمن الحلم بوجود الأكاديمية.
§       لا يتوقف وجود مؤسسة مهتمة بالفعل اللغوي عند حدود الدراسة الأكاديمية واقتراح مشاريع تعليمية وترجمية بل للأمر عمق استراتيجي يتيح للدولة إثبات وجودها وحضورها الديبلوماسي. لذا فوجود مشاريع عديدة لتأهيل العربية لا يخرج عن هذه الغاية الاستراتيجية التي إن استوعبها سادة القرار عندنا  سيمكنون المغرب  من لعب دوره الحضاري. بل إن حاجة العديد من الشعوب والدول للعربية قد تفيد في تعميق قوة المملكة وقدرتها على التأثير في الأحداث. فاللغة مدخل استراتيجي للمنعة والقوة.
إن غياب مؤسسة الأكاديمية يضيع على المغرب فرصا عديدة في إثبات وجوده الثقافي والسياسي، وعائدا استثماريا هاما في تأهيل بحثه العلمي وترشيده، والأهم أنه يغيب هويته الحضارية من التداول. أو لم يئن الأوان بعد؟


موسم النهوض باللغة العربية


في الوقت الذي مازالت اللغة العربية في وطننا تعيش تحت وطأة التهميش والاحتقار وأحيانا المحاربة من طرف مدبري الشأن العام الإداري والثقافي والإعلامي واللوبيات المتنفذة التي غيرت وجهة انتمائها، حيث لم يكن الاعتراف برسميتها في النص الدستوري إلا محاولة لتطمين قطاعات واسعة من الشعب مازالت تؤمن بعروبتها، وخير الأدلة الغياب المستمر لأكاديمية اللغة العربية التي وعد بها المغاربة في التصريح الحكومي وقبل ذلك في النصوص القانونية المختلفة، تأتينا من بلدان الخليج ومضات من الآمال تنعش فينا روح الانتماء. وسند هذا الأمل القناعة التي غدت تتولد لدى قطاع واسع من أصحاب القرار في الوطن العربي بجوهرية الانتماء الحضاري في بناء الأمة، ودور المكون اللغوي في الحفاظ على الهوية وتمكين الإنسان العربي من ولوج مجتمع المعرفة والتنمية، خاصة بعد دروس الربيع العربي وعودة روح الأمة التي غيبها الاستبداد لعقود طويلة.
فقد احتضنت مدينة الدوحة القطرية في الأسبوع الماضي "منتدى النهوض باللغة العربية" في نسخته الأولى بمشاركة العديد من رؤساء مجامع اللغة العربية والباحثين والأكاديميين وممثلي بعض مؤسسات المجتمع المدني. وإذا كانت ساحة العالم العربي قد عرفت وتعرف العديد من الندوات والمؤتمرات والملتقيات التي تصل أحيانا حد التخمة دون أن يكون لها أثر في تغيير واقع الحال، فإن أهمية المنتدى يكتسبها من الفكرة المؤسسة للمشروع التي تقوم على تنسيق الجهود العربية المختلفة رسمية كانت أو أهلية وإيجاد آلية لجمع المشتت في جهات الوطن العربي ومؤسساته. وتتجلى هذه الأهمية في ملامح عديدة:
1.    الدور المحوري لدولة قطر الذي غدا بينا وواضحا في رسم السياسة العربية والعالمية مما يشكل قوة دفع للمشروع، خاصة إذا علمنا بالقرار الرسمي الذي بدأ تنفيذه بتعريب مناهج التعليم في المؤسسات الجامعية القطرية، مما يؤكد أن الأمر لا يتعلق بنشاط إشعاعي عابر وإنما باستراتيجية للدولة المحتضنة.
2.    الإشراف المباشر على أعمال المنتدى ومتابعتها من قبل حرم أمير قطر الشيخة موزا بنت ناصر مع ما يحمله ذلك من مساندة حقيقية ورسمية لمشروعه وضمانة لتنفيذ مقتضياته ونتائجه بله واهتمام بنتائجه وتوصياته.
3.    المشاركة الواسعة للمجمعيين ممثلين في رؤساء جل مجامع اللغة العربية واتحادها، مما أتاح إخضاع جهودهم لمجهر التقييم والمساءلة من طرف الباحثين والأكاديميين والشباب.
4.    حضور وازن للباحثين وممثلي منظمات المجتمع المدني في الوطن العربي وأوربا وهو ما مكن من تبادل الهموم والخبرات.
5.    الاقتناع العام لدى المشاركين بضرورة مأسسة الفعل الدفاعي عن العربية بما يمكن من تجميع المجهودات والتنسيق فيما بينها وهو ما أثمر توصية البيان الختامي بإنشاء مجلس أمناء وأمانة عامة للمنتدى بغية تفعيل التواصل بين المبادرة القطرية والمجامع اللغوية في المنطقة.
لقد شكل المنتدى بحق فرصة لتقييم مسار السؤال اللغوي في العالم العربي وتوضيح صورة التماثل والاختلاف بين الأقطار العربية وأجوبتها المتعددة. فقد غدا بينا أنه بعد مدة تكاسل أصحاب القرار السياسي أو تجاهلوا المسألة اللغوية مما أدى إلى ضياع الهوية وقيم الانتماء الوطني لدى أبناء الأمة، بدأت المبادرات تتوالى في محاولة لتدارك الخلل واسترجاع جوهرية العربية في بناء الذات الوطنية. فقبل مدة أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة مشروعا لتعزيز الهوية الوطنية من خلال حملة "لغتنا هويتنا" المرتكزة على تعزيز وجود العربية في الفضاءات العامة واعتماد اللغة العربية لغة رسمية للتداول والتعاملات والمراسلات الداخلية والخارجية والتقارير ونشر الثقافة الوطنية وتعميمها على الآخرين واتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من ظاهرة استخدام اللغات الأجنبية في الشارع العام. كما شهدت المملكة العربية السعودية إنشاء "مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية" بالرياض الذي حددت مهامه في المحافظة على سلامة اللغة العربية وإيجاد البيئة الملائمة لتطوير وترسيخ اللغة العربية ونشرها والإسهام في دعم اللغة العربية وتعلمها وتقديم الخدمات ذات العلاقة باللغة العربية للأفراد والمؤسسات والهيئات الحكومية.
إن المبادرات المتكررة التي بدأت تتناسل في الوطن العربي مستفيدة من مناخ عودة مفهوم الأمة باعتباره مفهوما جوهريا في تشكيل المشترك الجمعي، تثبت أن المسألة اللغوية هي أكبر من مجرد سجال إيديولوجي أو اختيار سياسي يضمن التوازنات الاجتماعية، بل أصبح الاقتناع يتزايد بأن المسألة تتعلق بوجود الإنسان العربي وهويته التي بدأت تتآكل وتنمحي من الساحة بفعل الغزو اللغوي الأجنبي والحروب المتكررة باسم الخصوصية الوطنية أو الحداثة. لذا فالمبادرات المختلفة ، وعلى رأسها منتدى النهوض باللغة العربية، هي خطوات على الطريق الصحيح،
فهل سيقتنع سادة القرار السياسي والاجتماعي عندنا بالأمر قبل فوات الأوان؟

http://www.aljazeera.net/App_Themes/SharedImages/top-page.gif