السبت، ١٧ شعبان ١٤٣٣ هـ

شكرا للسيد النهاري....


شكرا للسيد النهاري....
لم يكن أحد من القطب العلماني الاستئصالي يحلم بأكثر من هدية الشيخ النهاري...هي هدية بكل المقاييس يستحق الشيخ الواعظ الشكر عليها ولا توازيها من حيث الكرم، والتي كانت في نفس الوقت تقريبا، إلا هدم الأضرحة في أزواد باسم الإسلام وتجييش العالم ضد المشروع الهوياتي.
لا يهمني كثيرا مقصود القول المنسوب إلى السيد النهاري ومدى موافقته للاجتهاد الفقهي الذي نقله من ضيق الرأي الخاص إلى امتداد التنزيل والتوقيت، كما أنني لست معنيا بخصوصية المجال الذي قيل فيه ومدى مشروعيته، لكن المهم عندي هو أنه شكل طوق نجاة لخطاب فشل في إنتاج حدث يمكنه من العودة لتصدر المشهد الإعلامي والاجتماعي. وما يجري في البرلمان خير الأمثلة. فمنذ وصول الحركة الإسلامية في المغرب، وغيره من دول الربيع العربي، إلى إدارة الشأن العام والقطب الاستئصالي يتصيد الأخطاء ويعبئ بغية إشعال فتيل المواجهة ونقل المواجهة إلى الشارع العام والتجاذب الإعلامي. وكأننا نشهد استنساخا للمواجهات الممتدة عبر خريطة الوطن العربي. ففي مصر مازالت الفلول لم تتعب من خلق العراقيل لانتصار الشعب وقيادته الإسلامية، حيث مازال توفيق عكاشة ودراريه يسخرون قدراتهم البلاغية والتعبوية لمواجهة المد الديمقراطي الشعبي. وفي تونس استفاقت كتائب الرفض التي كانت حتى وقت قريب تستفيد من النظام البائد للنبش في ملفات الاختلاف. وفي المغرب يجد هذا التيار كل مرة نفسه منعزلا داخل جزيرة من التهميش الاجتماعي وعدم الثقة من قبل المغاربة، فيبحث عن وسيلة للعودة إلى المشهد. حيث عبأ طاقاته الجمعوية بغية إحراج الإسلاميين وحلفائهم، وحاول فتح ملفات كثيرة من الطفولة إلى المرأة فالشباب فالشغل وغيرها دون أن يجد لها سند، وعبأ نقاباته المهترئة لتنظيم وقفات ومسيرات واحتجاجات انقلبت عليهم بقلة الاستجابة وكثرة الانسحابات فانكشفت عوراتهم التنظيمية، وبدأ يحرك الشارع كيفما اتفق لخلخلة الوضع، وحين أريد للإعلام أن يواكب حركية الدمقرطة عبئت كل الطاقات والأقلام من أجل محاربة الإصلاح وترسيخ الفساد المادي والأخلاقي، وفي كل مرة يكون ملف الفساد المالي حاضرا تجد هذه الأصوات تنتفض بشعارات أبانت أن المقصود ليس التحديث أو الدمقرطة ولكن يراد من خلالها الحفاظ على المصالح المادية والفئوية للنخبة المتسيدة، كيف لا وهي التي استفادت لعهود وعقود من قربها من دوائر القرار واستغلته في فرض النماذج الهجينة على المجتمع في التعليم والإعلام والفن وكل مناحي الحياة. وحين يتاح للمجتمع المغربي مناسبة للتعبير عن رأيه يرمي بهذه الأصوات إلى خارج الانتماء والوطن كما حصل في الانتخابات  الأخيرة. وبالرغم من بعض القرارات المثيرة للجدل للسيد بنكيران وحكومته فإن احترام وتقدير الجماهير لم ينقص لسبب أساسي هو الثقة في المسار وقدر مهم من المصداقية والنقاء الخلقي.
وأتى الشيخ النهاري بخرجته ليغير المعادلة ويعطي لهؤلاء فرصة العودة للحياة بعد أن بان الاحتضار في الأفق القريب... فلو تأمل السيد في مسار هؤلاء لوجد أن خرجتهم الأخيرة حول الحرية الجنسية ليست بالشيء الجديد، بل هي استمرار لخرجات منظمة ومهندسة بغية هدم مسار الحكومة والمشروع الإسلامي والهوية المغربية، أي أن الأمر غير خاص بالذات الخاصة بل بالذات العامة التي يبرمج كيفية الإجهاز عليها. لو استوعب السيد النهاري دوره الحقيقي الدعوي لفهم أن أول شروط الداعية أن تكون له استراتيجية لإيصال الرسالة، وأي استراتيجية هذه إن كانت تهدم مسار سنين من العمل، وتمنح طوق نجاة للمغردين خارج سرب المجتمع، لو فهم السيد النهاري دوره لعرف أن من المفروض أن يكون خطابه مؤسسا ومستوعبا للحظة وليس متحدثا كيف ما اتفق وحسب شروط المجلس والالتقاء... لو فهم السيد النهاري موازين القوى في العالم العربي وولى وجهه للحظة صوب الجوار لرأى في الأمر تماثلا وعملا منسقا ضد المشروع الذي يزعم أنه جزء منه... لو استوعب السيد النهاري الأمر لكان صمته أبلغ من قوله. قد لا يسعنا المجال للشك في صدق الرجل وشعبيته التي تجاوزت الحدود وقدرته على التأثير في المتلقين بل ومقارباته الصائبة في أحيان كثيرة، لكن الأجدر أن تكون معالجاته التعبوية داخلة في مشروع اشمل وفهم لواقع المجتمع وآفاق الصراع ضد القطب الاستئصالي. فلا أحد من هذا القطب إلا ويهمس: شكرا للسيد النهاري، وحتى لا تقلب الآية ضد الغاية فالمطلوب أن تكون آلية الدفاع جزء من منظومة المدافعة.

هل غدت العربية لغة مزعجة؟


هل غدت العربية لغة مزعجة؟
د.فؤاد بوعلي
ليس مفاجئا أن تفتح بعض الأصوات الاستئصالية النار في هذه الفترة على اللغة العربية كما فتحتها على كل مقومات الأمة. إذ يعرف النقاش الاجتماعي بالمغرب في الآونة الأخيرة وبعد وصول حكومة السيد بنكيران فتح العديد من الملفات التي تثبت ما قلناه في مناسبات عديدة أن جوهر الإشكال يتعلق بمحاولات فرض نموذج قيمي بديل يغير منطق الانتماء وحدوده، وليس نقاشا عرضيا يمكن التداول في جزئياته. فالحديث الجاري حاليا حول الحرية الجنسية والإعدام والدعارة ورمضان....ينضاف إليه الهجوم المحموم على اللغة العربية وقدراتها والمدافعين عنها، يدخل في إطار مشروع أشمل يروم فرض منظومة قيم مغايرة ضدا على المشترك الجمعي بعد أن فشلت هذه الأصوات في فرضها عبر الوسيلة الديمقراطية. وفي هذا السياق تأتي مقالة "مشاكل اللغة العربية التي يخلقها لها "المدافعون" عنها" لأحد أهم الأصوات الاستئصالية التي طالما نادت بإعادة النظر في الوجود المغربي من خلال الربط بين العلمانية والأمازيغية. ووقوفنا عند هذه المقالة ليس من باب الجدال، لأن جل ما فيها تواتر عند سدنة الخطاب الاستئصالي ورردنا عليه في غير ما مرة، وإنما اعتقادا منا بجمعها للعديد من الأخطاء المنهجية والمعرفية التي تتكرر في كل حين وآن، وكأنك وأنت تقرأها قد تتخيل نفسك تقرأ أسطرا لكاتب من الثمانينات لم يستفد من منجزات البحث اللساني ولا التقارير الدولية حول التنمية البشرية ولا تطورات النقاش الاجتماعي. لذا نشير إلى بعض الملاحظات دون أن نتوقف عند الجزئيات مادامت تكرارا لما صدر سلفا وإن كان الأهم عندنا توقيت النشر:
1 ــ قد لا نختلف كثيرا في القول بأن هناك فوضى عارمة تعيشها السياسة اللغوية بالمغرب، لكن الأكيد أننا نختلف في التوصيف. ففي حين يردد صاحب المقال ما أقره كبراؤه أن التعريب هو جوهر الأزمة التي يعاني منها التعليم المغربي، فإن السؤال الواجب طرحه والذي تتهرب كثير من الأقلام الأمازيغية ومنهم صاحب المقال من الجواب عليه هو: هل الإشكال في التعريب أم في سياسة التعريب؟ وهل يستطيعون قراءة تجربة التعريب بشكل موضوعي بعيدا عن فقاعات الإعلام والاصطفاف الإيديولوجي؟ فالتجارب التي تحققت عربيا وبعضها الآن في طور الإنجاز تثبت أن الإشكال كان في طريقة تعامل السلطة مع تعريب التعليم والذي تميز بكثير من التجاذبات الحزبية وعلاقات النظام بالخارج ودرجة قناعة السلطة بالخطوة الحضارية. والسؤال الحقيقي الذي ينبغي الجواب عنه هو: هل عدم تعريب التعليم بجميع الأسلاك هو خوف من دمقرطة المعرفة واشتراك الجميع نخبة وقاعدة في المعلومة؟ وأليس عدم تعريب التعليم الجامعي والعالي هو السبب في فقدان هذا الأخير لبوصلة الإبداع ؟ لقد شكل التعريب خيارا وطنيا واجهته العديد من الجهات أبرزها المرتبطة إيديولوجيا ومصلحيا بالفضاء الفرنكفوني مادامت العربية تزعج  وجودهم الحضاري وعلاقتهم بالسيد الفرنسي . ألم يقل صاحب المقال في مكان آخر أن الفرنسية لغة وطنية. هل يحتاج الأمر إلى مزيد إيضاح؟
2 ــ من بين الإشكالات التي تطرح مع غير المختصين في اللغويات العلاقة الملتبسة بين اللغة والدارجة. لذا ذهب صاحب المقال في التأريخ الذي قدمه لمسار الدفاع عن العربية إلى أن المرحلة الثالثة هي التي بدأت سنة 2010 بعد ارتفاع أصوات تنادي باعتماد الدارجة لغة بديلة عن العربية الفصحى. لكن ما لم يصل إلى علم السيد بودهان أن محاولات المدافعين عن التلهيج ليست وليدة اللحظة ولم تكن نتاج ندوة البيضاء، بل منذ عقود ومحاولات التلهيج على قدم وساق. ويكفينا أن نذكر بكتابي ” لغة مراكش العامية وقواعدها" لبنسمايل الصادر سنة 1918م، و"عربية مراكش" للويس ميرسيي الصادر سنة 1925م، لنبرز قدم هذه الدعوة. وإن بحثنا بشكل علمي بعيدا عن الخطاب الشعبوي التعبوي في العلاقة بين العربية والعامية المغربية لوجدنا التماثل حاضرا ، وكما قال الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله:" فاللهجات العامية المتفرعة عن العربية في بلاد المغرب واليمن والحجاز، لا يوجد بينها إلا فروق ضئيلة في نظام تكوين الجملة وتغيير البنية وقواعد الاشتقاق والجمع والتأنيث والوصف والنسب والتصغير...أما الاختلاف في الجانب الصوتي والدلالي فقد بلغ درجة كبيرة"، ولو تحدثنا عن التأثر والتأثير، فقد وصلت الدراسات الفيلولوجية إلى وجود الأثر الفارسي في الدارجة عن طريق الدخيل المعجمي العربي. فهل نقول أن العامية المغربية فارسية الأصل؟  وأين الصفاء الملحوظ في الكثير من الكلمات التي درجت على ألسنة العامة من أهل زعير كما أشار إلى ذلك لوبينياك عام 1916 في كتابه "نصوص عربية في زعير" (طبعة باريس، 1952)، مما لا يوجد له مثيلاً إلا عند القبائل التي لا يتطرق الشك إلى عروبتها كالشاوية ؟. وإذا كان صاحب المقال سنده ودليله هو قول بنشمسي فالنتيجة معروفة سلفا مادامت المقدمة واهية. 
3 ـــ هناك مغالطة طالما ترددت في حديث الخطاب الاستئصالي المعتمد الدفاع عن الأمازيغية كآلية للوصول لغايته: إن المدافعين عن العربية يختارون اللغات الأجنبية في تعليم أبنائهم. طيب لنعكس الآية ونقول: لم يختار هؤلاء الكتابة والحديث بلغات أخرى خاصة الفرنسية غير التي يتخمون المنابر بالدفاع عنها؟ أليس من الأجدر أن يكتب السيد مقاله بحرف تفيناغ؟ والأكثر من ذلك أين هم أبناؤهم من تعلم لغتهم؟ ونحن نعرف أن أبناء سدنتهم يملؤون مدارس البعثات الأجنبية. مشكلة العقل الاستئصالي هو شخصنة القضايا وتسطيحها بدل البحث في المعالجة العلمية. فالعلاقة بين الإيمان بالقضية والمسلكيات الشخصية لا تخص مدافعا عن العروبة أوالأمازيغية، ولا تخص فئة دون أخرى، بل هي قضية مرتبطة بقدرة الفرد على المواءمة بين تراكماته الذاتية وقناعاته الفكرية. ولنا في المسؤولين الذي كانوا يصدحون ليل نهار بمبادئهم وحين يمكنوا يكون للخطاب وجه آخر.
4 ــ هل هناك خوف على العربية؟ ومم؟ ما يفهمه صاحب المقال جيدا أن الدفاع عن العربية لا يقف عند حدود اللغة بل هو ضد الاستيلاب الوجودي الذي يؤسس له هو وأترابه، لذا فدفاعهم عن الأمازيغية ليس الغرض منه دفاعا عن لغة هضم حقها في الوجود ولكن الغرض منه هو إزالة العربية من الوجود وإحلال لغة السادة بدلها. والأمر واضح في كلامه. نقطة أخرى يمكن الإشارة إليها أن المدافعين عن التلهيج في المغرب لم يكونوا في يوم من الأيام متخصصون يناقشون قضايا الشأن اللغوي، بل جل المنتمين لهذا التيار مساهمون في  محاولات فرض القيم الغريبة. فالذين دافعوا عن تدريس العامية هم أنفسهم من يدافع عن الحرية الجنسية والخلاعة باسم الفن وكل القيم البديلة. أبعد هذا يمكن التشكيك في المؤامرة؟
5 ـ هناك حقيقة تؤرق سدنة العلمنة هي الارتباط اللزومي بين النص القرآني واللغة العربية وهو ما نقلها من مستواها العنصري إلى مستوى الريادة العالمية. والذي يتجاهله صاحب المقال أن قدرة اللسان العربي على احتواء الكلام المقدس بما يحويه من مضامين مفارقة ومتصلة يجعله أقدر على الاستعمال اليومي في الشأن العام والخاص، ومطالبتنا بجعلها لغة الإدارة والتعليم تتأسس على قدراتها الذاتية التي أثبتناها في أكثر من منبر أكاديمي، وبعدها الديني ليس إلا وجها واحدا وإن كان الأهم .
يبدو أن العربية غدت مزعجة للكثير من سدنة الخطاب الاستئصالي لما تمثله من مقومات الوجود الهوياتي، لذا فالحرب عليها لا تنفصل عن الحرب على وجود الأمة، واللغة ليست آلية للتواصل فحسب بل وعاء للمعرفة والقيم.